المثقف والذكاء الاصطناعي- صراع الأدوار أم تحالف الضرورة؟

إن التحولات الهائلة والمتسارعة التي نشهدها في الحقول العلمية والمعرفية، مدعومة بالتطورات التقنية والتكنولوجية المذهلة في وسائل التعليم والوظائف والأدوات، تجعل من الحديث عن الثقافة والمثقف، بمنظوره المعرفي، موضوعًا متشعبًا، حافلاً بالنقاشات المحتدمة، ومثيرًا للعديد من التساؤلات الجوهرية. فالتقنية اليوم تمثل تحديًا جسيمًا للبعد المعرفي في شخصية المثقف، الذي يُنظر إليه تقليديًا باعتباره مصدر المعرفة الأساسي، مع التأكيد على أن العملية المعرفية ذاتها هي عملية ثقافية بامتياز.
ولكن، قبل الخوض في تفاصيل هذا التحدي، يبرز سؤال محوري: من هو المثقف في الأساس؟ وأين يكمن موقعه ودوره في عصر الذكاء الاصطناعي المتنامي؟
صحيح أن تعريف المثقف وتحديد أنماطه هو موضوع دائم الجدل والاختلاف، ولكنني أرى أن هناك تجاوزًا ملحوظًا لهذه النقطة في النقاشات المعاصرة حول المثقف وتعريفاته المتنوعة. إن المقاربة الأكثر أهمية اليوم لمفهوم المثقف لم تعد تلك النظرة التقليدية التي تحصره في دور القارئ النهم للكتب والموسوعة المتنقلة للمعرفة. فمثل هذه الوظيفة لم تعد حكرًا على المثقف في عصر الفضاء الإلكتروني الواسع، حيث أصبحت المعرفة متاحة للجميع، وفي متناول أيديهم بكل سهولة. لم يعد المثقف هو الناقل الوحيد للمعرفة، بل أصبح دوره أكثر عمقًا وتأثيرًا، فهو صاحب الموقف النقدي تجاه كل ما يمس الإنسان والمجتمعات، ويدافع عن حقوقها وكرامتها وحرياتها.
وإذا كانت هذه المقاربة هي الأكثر حضورًا اليوم، أو يفترض أن تكون كذلك، في فهم طبيعة ووظيفة المثقف الحقيقي، أي الموقف النقدي الواعي، فإننا بذلك نؤسس لفصل واضح بين الجزء الآلي الأدائي، وبين البعد الروحي والأخلاقي والرسالي الذي يجب أن تشكله المعرفة في شخصية المثقف. هذا البعد يتجاوز فكرة العقل الحاسوبي الوظيفي الذي أصبحت التقنية تؤديه بكفاءة عالية، ولم يعد هذا الأداء مقتصرًا على العقل البشري وحده.
ففي هذا العصر الرقمي المتسارع، لم يعد لفكرة المثقف التقليدي ذلك المعنى القديم، لأنه لا يستطيع مواكبة أو مضاهاة أو منافسة برامج الذكاء الاصطناعي المتنوعة، وما تقدمه من خدمات معلوماتية فائقة السرعة والجودة، وكأنها صادرة عن عقل بشري متجرد. مع الأخذ في الاعتبار الفارق الكبير في الدقة والسرعة في تقديم هذه المعلومة، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي يهيمن على سوق المعلومات بطريقة مذهلة، ما يجعل فكرة الذكاء الاصطناعي تحتل تدريجيًا، وبشكل متزايد، مجالات العقل البشري الذي ابتكر فكرة الذكاء الاصطناعي نفسها.
لذلك، فإن الحديث اليوم عن فكرة المثقف، وخاصة نمط المثقف الوظيفي على وجه التحديد، يشي باحتمالية فقدانه لوظيفته التقليدية، وهي تلك الوظيفة التي يؤديها مقابل ما يمتلكه من معارف وعلوم تطبيقية أو حتى إنسانية. هذه الوظيفة هي ما يعرف بالتكنوقراط، أي الشخص الذي يسخر معارفه وقدراته لأداء وظيفة معينة، يتمكن من خلالها من تحقيق الأهداف المنشودة، مستفيدًا مما لديه من معارف ومعلومات ومهارات وخبرات متنوعة.
هذا النوع من المثقفين بات اليوم أكثر عرضة لخطر الاستغناء عن وظائفهم وأدوارهم في هذا العالم، في ظل الثورة الهائلة للذكاء الاصطناعي التي تقتحم كل المجالات، وتتدخل في كل التخصصات. ولكن، من الجدير بالذكر أن هذه الثورة قد تحمل في طياتها وجهًا إيجابيًا، حيث ستعيد الاعتبار لمفهوم المثقف العضوي الغرامشي، ذلك المثقف الذي يمثل الموقف النقدي والرسالي وضمير أمته، بحسب تعريف المفكر البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش. وهو ما يفترض أن يقوم به المثقف في مجتمعه وأمته، جامعًا بين المعرفة والقيم النبيلة.
أما المثقف الوظيفي، فأعتقد أنه سيواجه مأزقًا حقيقيًا بسبب توافر البديل الأكثر سرعة ودقة، ومما لا شك فيه أن هذا البديل سيسلب المثقف الوظيفي أهم خصائصه، وهي توفير المعلومة بدقة وسرعة فائقة، على عكس الأداء الروتيني للمثقف الوظيفي، الذي يتسم بالبطء الشديد والنمطية.
ولهذا السبب، أعتقد أن الذكاء الاصطناعي سيشكل تهديدًا كبيرًا لقطاع واسع من الوظائف، وخاصة تلك التي تعتمد على ما يمكن تسميته بالمثقف الوظيفي، مثل: الإداريين، والأطباء، والمهندسين، والصحفيين، والمترجمين، والمحررين، والمراجعين، وغيرهم الكثير من المهنيين.
بالعودة إلى موضوع الذكاء الاصطناعي والمثقف الوظيفي، فمن المؤكد أن المثقف الوظيفي سيفقد دوره تدريجيًا لصالح الذكاء الاصطناعي، وهو ما سينعكس إيجابيًا على إعادة الاعتبار لمفهوم ودور المثقف الحقيقي، الذي يفترض أن يستفيد من هذا التحول لتعزيز دوره ومكانته كناقد يجمع بين ميزتين أساسيتين، وهما الثقافة التقنية الواسعة والموقف النقدي العميق، وهو ما لا يتوفر لدى الطرفين: الذكاء الاصطناعي والمثقف الوظيفي.
هناك الكثير والكثير من الفوارق والمفارقات الدقيقة التي يجب أن تسجل في سياق الحديث عن العلاقة الجدلية الناشئة بين الذكاء الاصطناعي والمثقف. فالذكاء الاصطناعي هو أداة عبقرية، لكنها تفتقر إلى الجسد، والذاكرة الحقيقية، والرغبة في الحرية، على عكس المثقف الذي يظل ذلك الكائن الهش الذي يطرح الأسئلة المحرجة، ويعانق التناقضات، ويصر على أن الحياة هي أسمى وأعمق من مجرد معادلة خوارزمية رياضية حاسوبية، ليظل المثقف حاضرًا كضمير وقيمة أخلاقية يتجلى فيها سر الإنسان.
فالذكاء الاصطناعي قد يعرف عنا كل شيء، لكنه لا يعرف لماذا نضحك أو نبكي أو نحزن أو نُسر أو نُساء. أي أن الذكاء دون ضمير هو العبث بعينه، وهذا ربما ما قد يندرج ضمن تحذيرات ألبير كامو من فكرة التكنولوجيا التي تسحق إنسانية الإنسان.
وفي السياق ذاته، تبرز فكرة يورغان هابرماس في تحذيره من أن الذكاء الاصطناعي، أو ما يسميها بخوارزميات المنصات، يشكل خطرًا على الديمقراطية، وعلى الفعل التواصلي البشري، لأن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى ما يسميه هابرماس بالعقلانية التواصلية، أي عدم فهم السياق الأخلاقي من قبل الذكاء الاصطناعي. وبالتالي، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزز كفاءة الأنظمة، لكنه لا يستطيع أن يحل محل الفعل التواصلي بين البشر، وهذا برأي هابرماس يشكل خطرًا على البشرية بأن تصبح القرارات المصيرية حكرًا على خوارزميات لا تخضع للمساءلة.
لهذا كله يرى هابرماس أن المثقف ليس خصمًا للذكاء الاصطناعي، بل هو حارس ضد اختزال العالم الإنساني إلى معادلات تقنية. وإذا تخلى المثقفون عن هذا الدور، فسيصبح المستقبل مدارًا بـ"عقلانية صماء" تفتقر إلى المعنى والأخلاق.
وهنا تكمن أهمية وضع حدود واضحة بين العقل البشري والعقل الحاسوبي الخوارزمي لذكاء الآلة الصماء، أو ما بات يسمى بالذكاء الاصطناعي. وهو ربما الاختبار الصعب الذي سقط فيه حتى هابرماس نفسه فيما يتعلق بموقفه من أحداث غزة منذ بدايتها وصمته الطويل عما يجري هناك.
وختامًا، فإن أخطر ما يمكن أن يشكله الذكاء الاصطناعي على المثقف، هو أنه قد يقوده إلى حالة من الضمور النقدي، ويخلق لديه حالة من الكسل الذهني.
وهو ما يطرح فكرة أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والمثقف يجب ألا تقوم على فكرة الاستبدال، لأن مجال الذكاء الاصطناعي سيبقى في حدود حفظ المعلومة لا فهمها، وطرح الأسئلة الصعبة حولها، كما يفعل المثقف.
وبالتالي، يمكن أن تكون هناك علاقة تحالف استراتيجي بينهما، لأنه لا يمكن للعقل الاصطناعي أن يحل محل البصيرة الإنسانية المتجلية في الموقف الأخلاقي والقدرة على طرح الأسئلة الصعبة والمعقدة، وامتلاك القدرة على قول "لا" عند الضرورة، فضلًا عن رفض فكرة تشييء الإنسان واختزاله كمجرد رقم في معادلة خوارزمية رياضية.